عدد مرات القراءة : 138576
-1-
على دفترْ .. سأجمعُ كلّ تاريخي على دفترْ ..
سأرضعُ كلّ فاصلةٍ حليبَ الكلمةِ الأشقرْ..
سأكتبُ لا يهمُّ لمن سأكتبُ هذه الأسطرْ..
فحسبي أن أبوحَ هنا لوجهِ البوحِ لا أكثرْ ..
حروفٌ لا مباليةٌ أبعثرها على دفترْ..
بلا أملٍ بأن تبقى بلا أملٍ بأن تُنشرْ..
لعلّ الريح تحملها فتزرع في تنقلها ..
هنا حرجاً من الزعتر هنا كرماً هنا بيدرْ ..
هنا شمساً و صيفاً رائعاً أخضرْ ..
حروف سوف أفرطها كقلب الخوخة الأحمرْ
لكلّ سجينةٍ تحيا معي في سجني الأكبرْ ..
حروفٌ سوف أغرزها بلحمِ حياتنا خنجرْ ..
لتكسرَ في تمرّدها جليداً كان لا يُكسرْ ..
لتخلعَ قفل تابوتٍ أُعِدَّ لنا لكي نُقبرْ ..
كتاباتٍ أقدّمها لأيّ مهجةٍ تَشعرْ ..
سيسعدني إذا بقيتْ غداً مجهولةَ المصدرْ ..
- 2 -
أنا أنثى .. أنا أنثى ..
نهار أتيت للدنيا وجدتُ قرار إعدامي ..
ولم أرَ بابَ محكمتي و لم أرَ وجهَ حكّامي ..
- 3 -
عقاربُ هذه الساعة كحوتٍ أسودَ الشفتين يبلعني ..
عقاربها كثعبانٍ على الحائط كمقصلةٍ كمشنقةٍ كسكّينٍ تمزّقني
كلصٍّ مسرع الخطوات يتبعني و يتبعني ..
لماذا لا أحطّمها ؟ وكلّ دقيقةٍ فيها تحطّمني
أنا امرأةٌ بداخلها توقّفَ نابضُ الزّمنِ ..
فلا نوّارَ أعرفهُ .. ولا نيسانَ يعرفني ..
- 4 -
أنا بمحارتي السوداء .. ضوءُ الشمسِ يوجعني
وساعةُ بيتنا البلهاء .. تعلكني و تبصقني
مجلاتي مبعثرةٌ ..وموسيقاي تضجرني
مع الموت أعيش أنا .. مع الأطلال و الدّمنِ
جميعُ أقاربي موتى .. بلا قبرٍ و لا كفنِ
أبوح لمن ولا أحداً ..مِنَ الأمواتِ يفهمني ؟
أثور أنا على قدري .. على صدئي على عفني
و بيتٍ كلُّ مَنْ فيه .. يعاديني و يكرهني
أدقُّ بقبضتي الأبواب ..و الأبوابُ ترفضني
بظفري أحفر الجدران .. أجلدها و تجلدني
أنا في منزل الأموات فمن من قبضة الموتى يحررني ؟!
- 5 -
لمن صدري أنا يكبرْ .. ؟!
لمن كرزاته دارت ؟.. لمن تفاحه أزهرْ ؟!
لمن صحنانِ صينيّان ..من صدفٍ ومن جوهرْ ؟
لمن قدحان من ذهبٍ .. و ليس هناك من يسكرْ
لمن شفةٌ مناديةٌ ..تجمّدَ فوقها السّكرْ ؟
أللشيطان للديدان .. للجدران لا تُقهرْ ؟
أربّيها وضوءُ الشمسِ أسقيها سنابلَ شعري الأشقرْ
- 6 -
خلوتُ اليوم ساعاتٍ إلى جسدي .. أفكر في قضاياهُ
أليسَ له هو الثاني قضاياهُ ؟ .. وجنّتهُ .. و حماهُ ..؟
لقد أهملتهُ زمناً .. و لم أعبأ بشكواهُ
نظرتُ إليهِ في شغفٍ .. نظرتُ إليهِ من أحلى زواياهُ
لمستُ قبابهُ البيضاء و غابتهُ ومرعاهُ
أنا لوني حليبيٌّ كأنّ الفجرَ قطّرهُ و صفاهُ
أسفتُ لأنّه جسدي .. أسفتُ على ملاستهِ
و ثرتُ على مصمّمهِ .. و عاجنهِ و ناحتهِ
رثيتُ له لهذا الوحش .. يأكلُ من وسادتهِ
لهذا الطّفلِ ليسَ تنام عيناهُ
نزعتُ غلالتي عنّي رأيتُ الظلّ يخرجُ من مراياهُ
رأيتُ النّهدَ كالعصفورِ لم يتعبْ جناحاهُ
تحرّرَ من قطيفتهِ و مزّقَ عنه تفتاهُ
حزنتُ أنا لمرآهُ .. لماذا الله كوّرهُ و دوّرهُ و سوّاهُ ؟!
لماذا الله أشقاني بفتنته و أشقاهُ ؟
و علّقهُ بأعلى الصّدرِ جرحاً لستُ أنساهُ
- 7 -
لماذا يستبدُّ أبي ؟ .. و يرهقني بسلطتهِ ؟!
و ينظرُ لي كآنيةٍ ..كسطرٍ في جريدتهِ
و يحرصُ أن أظلَّ لهُ ..كأني بعض ثروتهِ
و أن أبقى بجانبهِ .. ككرسيٍّ بحجرتهِ
أيكفي أنني ابنتهُ .. وأني من سلالتهِ ؟
أيطعمني أبي خبزاً .. أيغمرني بنعمتهِ ؟
أكفرتُ أنا بمال أبي ؟.. بلؤلؤهِ .. بفضّتهِ ؟
أبي لم ينتبه يوماً .. إلى جسدي و ثورتهِ
أبي رجل أنانيٌّ .. مريضٌ في محبّتهِ
مريضٌ في تعصّبهِ .. مريضٌ في تعنّتهِ
يثورُ إن رأى صدري تمادى في استدارتهِ
يثورُ إن رأى رجلاً .. يقرب من حديقتهِ
أبي لن يمنعَ التّفاح .. عن إكمالِ دورتهِ
سيأتي ألفَ عصفورٍ .. ليسرقَ من حديقتهِ
- 8 -
على كرّاستي الزرقاء أستلقي بحريّه
وأبسط فوقها ساقي في فرحٍ و عفويّه
أمشّطُ فوقها شعري .. و أرمي كل أثوابي الحريريّه
أنامُ أفيقُ عاريةً .. أسيرُ أسيرُ حافيةً
على صفحات أوراقي السماويّه
على كرّاستي الزرقاء .. أسترخي على كيفي
و أهربُ من أفاعي الجنس و الإرهابِ و الخوفِ
و أصرخُ ملءَ حنجرتي .. أنا امرأةٌ .. أنا امرأةٌ
أنا إنسانةٌ حيَّه .. أيا مدنَ التّوابيتِ الرخاميّه
على كراستي الزرقاء تسقطُ عنّي أقنعتي الحضاريّه
ولا يبقى سوى نهدي تكوّمَ فوقَ أغطيتي كشمسٍ استوائيّه
ولا يبقى سوى جسدي يعبّرُ عن مشاعرهِ بلهجتهِ البدائيّه
و لا يبقى .. و لايبقى .. سوى الأنثى الحقيقيّه
- 9 -
أحبُّ طيورَ تشرينِ .. تسافرُ حيثما شاءت
و تأخذُ في حقائبها بقايا الحقلِ من لوزٍ ومن تينِ
أنا أيضاً أحبُّ أكونَ .. مثل طيورِ تشرينِ
أحبُّ أضيعَ .. مثل طيورِ تشرينِ
فحلوٌ أن يضيعَ المرءُ .. بينَ الحينِ و الحينِ
أريدُ البحثَ عن وطن .. جديدٍ غيرَ مسكونِ
وربٍّ لا يطاردني .. و أرضٍ لا تعاديني
أريدُ أفرُّ من جلدي .. ومن صوتي ومن لغتي
وأشردُ مثل رائحة البساتينِ
أريدُ أفرُّ من ظلّي .. و أهرب من عناويني
أريدُ أفرُّ من شرقِ الخرافة و الثعابينِ
من الخلفاء و الأمراء .. من كل السلاطينِ
أريدُ أحبُّ ..مثل طيور تشرينِ
أيا شرقَ المشانقِ و السكاكينِ
- 10 -
صباحَ اليومِ فاجأني .. دليلُ أنوثتي الأّوّلْ
كتمتُ تمزّقي ورحتُ .. أرقبُ روعةَ الجّدولْ
وأتبعُ موجهُ الذهبيّ .. أتبعهُ ولا أسألْ
هنا أحجارُ ياقوتٍ .. وكنزُ لآلئٍٍ مُهملْ
هنا نافورة جذلى .. هنا جسرٌ من المخملْ
هنا سفنٌ من التوليب .. ترجو الأجملَ الأجملْ
هنا حبرٌ بغير يدٍ .. هنا جرحٌ ولا مقتلْ
أأخجلُ منه هل بحرٌ .. بعزّةِ موجهِ يخجلْ ؟
أنا للخصبِ مصدرهُ .. أنا يدهُ .. أنا المغزلْ
- 11 -
أسائلُ دائماً نفسي .. لماذا لا يكونُ الحبّ في الدنيا
لكلّ الناس .. كلّ الناس .. مثل أشعة الفجرِ
لماذا لا يكون الحبّ مثل الخبزِ و الخمرِ
ومثلَ الماءِ في النّهرِ
و مثلَ الغيمِ و الأمطار.. و الأعشاب و الزهرِ
أليس الحبّ للإنسان .. عمراً داخل العمرِ ؟
لماذا لا يكون الحبّ في بلدي طبيعيّاً ؟
كأنّه زهرةٌ بيضاء طالعةٌ من الصخرِ
طبيعيّاً كلقيا الثغر بالثغر .. ومنساباً كما شعري على ظهري
لماذا لا يحبّ الناس في لينٍ و في يسرِ ؟
كما الأسماك في البحرِ .. كما الأقمار في أفلاكها تجري
لماذا لا يكون الحبّ في بلدي ضروريّاً كديوانٍ من الشعرِ ؟!
- 12 -
أفكّر أيّنا أسعدْ؟ ..
أنا.. أم قطنا الأسود؟
أنا أم ذلك الممدود سلطاناً على المقعدْ؟
سعيداً تحت فروتهِ كربٍّ مطلقٍ مفردْ
أفكّرُ: أيّنا حرٌّ و من منّا طليق اليدْ
أنا أم ذلك الحيوان .. يلحسُ فروه الأجعدْ؟
أمامي كائنٌ حرٌّ يكادُ للطفهِ يُعبدْ
لهذا القطّ عالمهُ ، له طردٌ ، له مسندْ
له في السطحِ مملكةٌ و راياتٌ له تُعقدْ
له حريّةٌ و أنا أعيشُ بقمقمٍ موصدْ
- 13 -
أنا نهداي في صدري كعصفورين قد ماتا من الحرِّ
كقدّيسين شرقيّين .. متّهمين بالكفرِ
كم اضطُّهدا و كم جُلدا .. وكم رقدا على الحجرِ
وكم رفضا مصيرهما .. وكم ثارا على القهرِ
وكم قطعا لجامهما .. وكم هربا من القبرِ
متى سيفكُّ قيدهما ؟ .. متى ياليتني أدري
- 14 -
نزلتُ إلى حديقتنا .. أزورُ ربيعها الرّاجعْ
عجنتُ ترابها بيدي .. حضنتُ حشيشها الطالعْ
رأيتُ شجيرةَ الدّراق .. تلبسُ ثوبها الفاقعْ
رأيتُ الطّيرَ محتفلاً .. بعودة طيره الساجعْ
رأيتُ المقعدَ الخشبيّ .. مثلَ الناسكِ الراكعْ
سقطتُ عليه باكيةً .. كأنّي مركبٌ ضائعْ
أحتى الأرض يا ربّي تعبّر عن مشاعرها بشكل بارع بارع
أحتّى الأرض يا ربّي لها يومٌ تحبُّ به تضمُّ حبيبها الراجع
رفوف العشب من حولي لها سبب لها دافع
فليس الزنبق الفارع و ليس الحقل ليس النحل ليس الجدول النابع
سوى تعبير هذي الأرض غير حديثها البارع
أحسّ بداخلي بعثاً يمزّق قشرتي عني و يسقي جذري الجائع
و يدفعني لأن أعدو مع الأطفال في الشارع
أريد أريد أن أعطي كأيّ زهرة في الروض تفتّح جفنها الدامع
كأية نحلة في الحقل تمنح شهدها النافع
أريد.. أريد أن أحيا بكل خلية مني مفاتن هذه الدنيا بمخمل ليلها الواسع
و برد شتائها اللاذع
أريد .. أريد أن أحيا .. بكل حرارة الواقع .. بكل حماقة الواقع
- 15 -
أبي صنفٌ من البشرِ
مزيجٌ من غباءِ التّرك و من عصبيّة التّترِ
أبي أثر من الآثار .. تابوتٌ من الحجرِ
تهرّأ كل ما فيهِ ..كبابِ كنيسةٍ نخرِ
كهارون الرشيد أبي ، جواريه ، مواليه ، تمطّيه على تخت من الطّررِ
و نحن هنا .. ضحاياه .. سباياه .. مماسح قصره القذرِ
- 16 -
أغطُّ الحرفَ بالجرحِ و أكتبُ فوقَ جدرانٍ من الكبريت و الملحِ
و أبصقُ فوقَ أوثانٍ عواطفها من الملحِ و أعينها و منطقها من الملحِ
- 17 -
لماذا في مدينتنا نعيش الحبَّ تهريباً و تزويرا
و نسرق من شقوقِ الباب موعدنا و نستعطي الرسائل و المشاويرا
لماذا في مدينتنا ..؟ يصيدون العواطف و العصافيرا
لماذا نحن قصديرٌ؟ و ما يبقى من الإنسان حين يصير قصديرا ؟!
لماذا نحن مزدوجون إحساساً .. وتفكيرا؟
لماذا نحن أرضيّون ..تحتيّون .. نخشى الشمس و النورا
لماذا أهل بلدتنا يمزّقهم تناقضهم
ففي ساعات يقظتهم يسبّون الضفائر و التنانيرا
و حين الليل يطويهم يضمّون التصاويرا
- 18 -
يعود أخي من الماخور عند الفجر سكرانا
يعود كأنّه السلطان، من سمّاه سلطانا
و يبقى في عيون الأهل أجملنا و أغلانا
و يبقى في ثياب العهر .. أطهرنا و أنقانا
يعود أخي من الماخور مثل الدّيك نشوانا
فسبحان الذي سوّاه من ضوءٍ و من فحمٍ رخيصٍ نحن سوّانا
وسبحان الذي يمحو خطاياه ولا يمحو خطايانا
- 19 -
خرجتُ اليوم للشّرفة على الشّباك جارتنا المسيحيّة تحيّيني
فرحتُ لأنّه إنسانٌ يحيّيني
لأنّ يداً صباحيّة .. يداً كمياهِ تشرينِ
تلوّحُ لي تناديني
أيا ربّي متى نُشفى تُرى من عقدةِ الدّينِ ؟
أليسَ الدّين كلّ الدّين إنساناً يحيّيني
و يفتحُ لي ذراعيهِ و يحملُ غصنَ زيتونِ
- 20 -
تُخيفُ أبي مراهقتي .. يدقُّ لها طبول الذّعرِ و الخطرِ
يقاومها .. يقاوم رغوة الخلجان يلعنُ جرأةَ المطرِ
يقاوم دونما جدوى مرور النّسغ في الزّهرِ
أبي يشقى إذا سألت رياحُ الصّيفِ عن شعري
و يشقى إن رأى نهدايَ يرتفعانِ في كِبرِ
و يغتسلان كالأطفال تحتَ أشعّة القمرِ
فما ذنبي و ذنبهما .. هما منّي .. هما قدري
- 21 -
سماء مدينتي تمطر
ونفسي .. مثلها تمطر
وتاريخي معي .. طفل
نحيل الوجه لا يبصر
أنا حزني رمادي
كهذا الشارع المقفر
أنا نوع من الصُبير ..
لا يعطي .. ولا يثمر
حياتي مركب ثمل
تحطم قبل أن يبحر ..
وأيامي مكررة
كصوت الساعة المضجر
وكيف أنوثتي ماتت
أنا ما عدت أستفكر
فلا صيفي أنا صيف
ولا زهري أنا يزهر
بمن أهتم .. هل شيء
بنفسي _ بعد _ ما دُمر
أبالعفن الذي حولي ..
أم القِيم التي أنكر
حياتي كلها عبث
فلا خبرٌ .. أعيش له .. ولا مُخبر
للا أحد .. أعيش أنا ..
ولا .. لا شيء أستنظر …
- 22 -
متى يأتي ترى بطلي ؟
لقد خبأت في صدري
له زوجاً من الحجل
وقد خبأت في ثغري
له ، كوزاً من العسل ..
متى يأتي على فرس
له ، مجدولة الخصل
ليخطفني ..
ليكسر باب معتقلي
فمنذ طفولتي وأنا ..
أمد على شبابيكي ..
حبال الشوق والأمل ..
وأجدل شعري الذهبي كي يصعد ..
على خصلاته .. بطلي ..
- 23 -
سأكتب عن صديقاتي ..
فقصة كل واحدة
أرى فيها .. أرى ذاتي
ومأساة كمأساتي ..
سأكتب عن صديقاتي ..
عن السجن الذي يمتص أعمار السجينات ..
عن الزمن الذي أكلته أعمدة المجلات ..
عن الأبواب التي لا تفتح
عن الرغبات وهي بمهدها تذبح
عن الحلمات تحت حريرها تنبح
عن الزنزانة الكبرى
وعن جدرانها السود ..
وعن آلاف .. آلاف الشهيدات
دفن بغير أسماء بمقبرة التقاليد ..
صديقاتي ..
دمى ملفوفة بالقطن
داخل متحف مغلق
نقودٌ .. صكها التاريخ ، لا تُهدَى ولا تُنفق
مجاميع من الأسماك في أحواضها تخنق
وأوعية من البلور مات فراشها الأزرق …
بلا خوف سأكتب عن صديقاتي ..
عن الأغلال دامية بأقدام الجميلات ..
عن الهذيان .. والغثيان .. عن ليل الضراعات ..
عن الأشواق تدفن في المخدات ..
عن الدوران في اللاشيء ..
عن موت الهنيهات ..
صديقاتي ..
رهائن تشترى وتباع في سوق الخرافات ..
سبايا في حريم الشرق .. موتى غير أموات ..
يعشن ، يمتن ، مثل الفطر في جوف الزجاجات
صديقاتي ..
طيور في مغائرها تموت بغير أصوات …
- 24 -
بلادي ترفض الحُبَّا
تصادره كأي مخدِّرٍ خطرٍ
تطارده ..
تطارد ذلك الطفل الرقيق الحالم العذْبَا
تقصُّ له جناحيهِ ..
وتملأ قلبه رُعبا …
بلادي تقتل الربَّ الذي أهدى لها الخصبا
وحوَّل صخرها ذهباً
وغطى أرضها عشبا ..
وأعطاها كواكبَها
وأجرى ماءها العذْبا
بلادي . لم يزُرْها الربُّ
منذُ اغتالتِ الربا ..
- 25 -
كفى يا شمس تموزٍ غبار الكلس يعمينا
فمنذ البدء غير الكلس ، لم تشرب أراضينا
ومنذ البدء غير الدمع ، لم تسكب مآقينا
ومنذ البدء نستعطي سماءً ليس تُعطينا ..
كفانا نلعق الأحجارَ
والأسفلتَ ، والطينا
كفانا ، يا سماواتٍ
من القصدير تكوينا ..
جلودُ وجوهنا يَبِستْ
تشقّقَ لحمُ أيدينا ..
لماذا ؟ ترفضُ الأمطارُ أن تسقي روابينا
لماذا؟ تنشفُ الأنهارُ إنْ مرَّتْ بوادينا ..
لماذا ؟ تصبح الأزهارُ فحماً في أوانينا
لأنّا قد قتلنا العطرَ .. واغْتَلنا الرياحينا ..
وأغمدنا بصدر الحُبِّ ، أغمدنا السكاكينا ..
لأن الأرض تشبهُنا
مناخاتٍ وتكوينا …
لأن العقمَ ، كل العُقْم
لا في الأرض بل فينا …
- 26 -
يروعني ..
شحوب شقيقتي الكبرى
هي الأخرى
تعاني ما أعانيه
تعيش الساعة الصفرا
تعاني عقدة سوداء
تعصر قلبها عصرا
قطار الحسن مر بها
ولم يترك سوى الذكرى
ولم يترك من النهدين
إلا الليف والقشرا
لقد بدأت سفينتها
تغوص .. وتلمس القعرا
أراقبها وقد جلست
بركن ، تصلح الشعرا
تصففه .. تخربه
وترسل زفرة حرى
تلوب .. تلوب .. في الردهات
مثل ذبابة حيرى
وتقبع في محارتها
كنهر .. لم يجد مجرى
- 27 -
فساتيني !
لماذا صرت أكرهها ؟
لماذا لا أمزقها ؟
أقلب فوقها طرفي
كأني لست أعرفها
كأني .. لم أكن فيها
أحركها و أملؤها ..
لمن تتهدل الأثواب .. أحمرها وأزرقها
وواسعها .. وضيقها
وعاريها .. ومغلقها
لمن قصبي ! .. لمن ذهبي ؟
لمن عطرٌ فرنسي ؟
يقيم الأرض من حولي ويقعدها
فساتيني !
فراشات محنطة
على الجدران أصلبها
وفي قبر من الحرمان أدفنها ..
مساحيقي وأقلامي
أخاف أخاف أقربها
وأمشاطي .. ومرآتي
أخاف أخاف ألمسها ..
فما جدوى فراديسي ؟..
و لا إنسان يدخلها …
- 28 -
مدينتنا .. تظل أثيرة عندي
برغم جميع ما فيها
أحب نداء باعتها
أزقتها .. أغانيها
مآذنها .. كنائسها
سُكاراها .. مُصليها ..
تسامحها .. تعصبها
عبادتها لماضيها ..
مدينتنا _ بحمد الله _
راضية بما فيها ..
ومن فيها ..
بآلاف من الأموات تعلكهم مقاهيها ..
لقد صاروا ، مع الأيام
جزءاً من كراسيها ..
صراصير محنطة ، خيوط الشمس تعميها
مدينتنا .. وراء النرد ، منفقة لياليها
وراء جريدة كسلى .. وعابرة تعريها..
فلا الأحداث تنفضها
ولا التاريخ يعنيها ..
مدينتنا .. بلا حب
يرطب وجهها الكلسي .. أو يروي صحاريها
مدينتنا بلا امرأة ..
تذيب صقيع عزلتها
وتمنحها معانيها …
- 29 -
أقمنا نصف دنيانا على حكم وأمثال
وشيدنا مزارات .. لألف .. وألف دجال ..
وكالببغاء .. رددنا مواعظ ألف محتال ..
قصدنا شيخ حارتنا ، ليرزقنا بأطفال
فأدخلنا لحجرته
وقام بنزع جبته
وباركنا وضاجعنا
وعند الباب طالبنا
بدفع ثلاث ليراتٍ
لصنع حجابه البالي ..
وعُدنا مثلما جئنا
بلا ولد .. ولا مال
- 30 -
يعيش بداخلي وحشٌ
جميل اسمه الرجل ُ
له عينان دافئتان ..
يقطر منهما العسل ُ
ألامس صدره العاري
ألامسه . وأختجل ..
قروناً .. وهو مخبوءٌ
بصدري … ليس يرتحل
ينام وراء أثوابي ..
ينام كأنه الأجل
أخاف .. أخاف أوقظه
فيشعلني .. ويشتعل
كمخلوق خرافي يعيش بذهننا الرجلُ
تصورناه تنيناً .. له تسعون إصبعة
وشدقٌ أحمر ثملُ ..
تصورناه خفاشاً .. مع الظلمات ينتقل
تخيلناه قرصاناً ، تخيلناه ثعباناً
أمد يدي لأقتله
أمد يدي و لا أصِل
إله في معابدنا ، نصليه ونبتهل
يغازلنا .. وحين يجوع يأكلنا
ويملا الكأس من دمنا .. ويغتسل ..
إله لا نقاومه ، يعذبنا ونحتمل ..
ويجذبنا نعاجاً من ضفائرنا ونحتمل ..
ويلهو في مشاعرنا ، ويلهو في مصائرنا ونحتمل
ويدمينا … ويؤذينا
ويقتلنا .. ويحيينا
ويأمرنا فنمتثل
إلهٌ ما له عمرٌ .. إله اسمه الرجلُ
- 31 -
تلاحقنا الخرافةُ والأساطيرُ
من القبر .. الخرافة والأساطير
ويحكمنا هنا الأموات .. والسياف مسرورُ
ملايينٌ من السنوات..
لا شمسٌ ولا نورُ
بأيدينا مسامير
وأرجلنا مسامير
وفوق رقابنا سيفٌ
رهيف الحد مسعورُ
وفوق فراشنا عبدٌ
قبيح الوجه مجدور
من النهدين يصلبنا
وبالكرباج يجلدنا..
ملايينٌ من السنوات .. والسياف مسرور
يفتش في خزائننا
يفتش في ملابسنا ..
عن الأحلام نحلمها
عن الأسرار تكتمها الجواريرُ
عن الأشواق تحملها التحارير ..
ملايينٌ من السنوات .. والسياف مسرور
مقيم في مدينتنا
أراه في ثياب أبي
أراه في ثياب أخي
أراه .. هاهنا .. وهنا
فكل رجال بلدتنا ..
هم السياف مسرورُ ..
- 32 -
ثقافتنا ..
فقاقيع من الصابون والوحل ..
فما زالت بداخلنا
رواسب من ( أبي جهل )
وما زلنا
نعيش بمنطق المفتاح والقفل
نلف نساءنا بالقطن .. ندفنهن في الرمل
ونملكهن كالسجاد ..
كالأبقار في الحقل
ونهزأ من قوارير
بلا دين ولا عقل ..
ونرجع آخر الليل ..
نمارس حقنا الزوجي كالثيران والخيل ..
نمارسه خلال دقائق خمسٍ
بلا شوق .. ولا ذوق ..
ولا ميل ..
نمارسه .. كآلات
تؤدي الفعل للفعل ..
ونرقد بعدها موتى ..
ونتركهن وسط النار ..
وسط الطين والوحل
قتيلات بلا قتل
بنصف الدرب نتركهن ..
يا لفظاظة الخيل .. !!
- 33 -
قضينا العمر في المخدع
وجيش حريمنا معنا
وصك زواجنا معنا
وصك طلاقنا معنا..
وقلنا : الله قد شرَّع
ليالينا موزعة
على زوجاتنا الأربع..
هنا شفة .. هنا ساق ..
هنا ظفر .. هنا إصبع
كأن الدين حانوت
فتحناه لكي نشبع ..
تمتعنا ( بما أيماننا ملكت )
وعشنا في غرائزنا بمستنقع
وزورنا كلام الله بالشكل الذي ينفع
ولم نخجل بما نصنع
عبثنا في قداسته
نسينا نبل غايته..
ولم نذكر سوى المضجع
ولم نأخذ
سوى زوجاتنا الأربع …
- 34 -
أنا طروادة أخرى
أقاوم كل أسواري
وأرفض كل ما حولي .. ومَن حولي .. بإصرار ..
أقاوم واقعي المصنوع ..
من قش وفخار ..
أقاوم كل أهل الكهف . والتنجيم ، والزار ..
تواكلهم ، تآكلهم ، تناسلهم كأبقار ..
أمامي ألف سياف وسياف
وخلفي ألف جزار وجزار …
فيا ربي !
أليس هناك من عار سوى عاري ؟
ويا ربي !
أليس هناك من شغل
لهذا الشرق .. غير حدود زناري ؟؟.
- 35 -
تظل بكارة الأنثى
بهذا الشرق عقدتنا وهاجسنا
فعند جدارها الموهوم قدمنا ذبائحنا..
وأولمنا ولائمنا ..
نحرنا عند هيكلها شقائقنا
قرابيناً .. وصحنا ( وا كرامتنا ) .
صداع الجنس ..مفترسٌ جماجمنا
صداع مزمن بشعٌ من الصحراء رافقنا
فأنسانا بصيرتنا ، وأنسانا ضمائرنا
وأطلقنا ..
قطيعاً من كلاب الصيد .. نستوحي غرائزنا ..
أكلنا لحم مَن نهوى ومسحنا خناجرنا ..
وعند منصة القاضي صرخنا ( وا كرامتنا ) ..
وبرمنا كعنترة بن شداد شواربنا …
- 36 -
وداعا .. أيها الدفتر
وداعا يا صديق العمر ، يا مصباحي الأخضر
ويا صدرا بكيت عليه ، أعواما ، ولم يضجر
ويا رفضي .. ويا سخطي ..
ويا رعدي .. ويا برقي ..
ويا ألماً تحول في يدي خنجر ..
تركتك في أمان الله
يا جرحي الذي أزهر
فإن سرقوك من درجي
وفضوا ختمك الأحمر
فلن يجدوا سوى امرأة
مبعثرة على دفتر ..