عدد مرات القراءة : 16615
هذه رسالة غير عادية , عن يوم غير عاديّ .
قليلة جداً هي الأيام غير العادية في حياة الإنسان .
الأيام التي يخرج بها من قفص بشريته .. ليصبح عصفوراً .
يوم .. أو نصف يوم .. ربما .. في حياة الانسان كلها ,
يخرج فيه من السيلول الضيق ,
ليمارس حريته , ليقول ما يشاء ..
ويحرك يديه كما يشاء , ويجبّ من يشاء في الوقت الذي يشاء ..
نادراً ما يضل الإنسان إلى ذروة حريته ,
فيخرج من الصندوق المختوم بالشمع الأحمر
الذي هو العادات اليومية والمصطلحات الاجتماعية ,
ليرى حبيبته على الطبيعة .. ويحبها على الطبيعة ..
الإنسان مدعي حرية ..
وليس حراً كما يتصور .
إنه ليس حراً في صلاته مع يديه , وشفتيه , وثيابه ,
وكلامه وحواره اليوميّ ..
فإذا كتبتُ لكِ عن هذا اليوم غير العاديّ ,
فلأنني أشعر أنني تحررت في هذا اليوم من دبقي ومن صمغي ..
وخرجتُ من صندوق النفاق الإجتماعي ,
ومن مغارة التاريخ ,
لأمارس حريتي كما يمارسها أي عصفور شارجد في البرية .
البحر كتابٌ أزرقُ الغلاف .. أزرقُ الصفحات ..
وأنت بثوب الإستحمام , تقرأين تحت الشمس ,
الحشرات الصغيرة تزحف على جسدك الزنبقيّ لتشرب الضوء ..
ظهركِ مكشوف .. وقدماك تلعبان بحرية وطفولة على العشب الثابت أمام باب بيتنا البحريّ ..
وأخيراً .. أصبح لنا بابٌ .. ومفتاحٌ .. ومنزلٌ بحريّ نلتجيء إليه ..
ربما لا تدركين معنى أم يكون للإنسان بيت , ومفتاح , وامرأة يحبها ..
ربما لا تدركين أنن تلميذٌ هاربٌ من جميع مدارس الحبّ ومعلميها ..
هارب من ممارسة الحب بالإكراه ,
وممارسة الشوق بالإكراه ,
وممارسة الجنس بالإكراه ..
وللمرة الأولى منذ عشرين سنة ,
أدخل معك منزلنا البحريّ فلا أشعر أن له سقفاً .. وجدراناً ..
للمرة الأولى أدفن وجهي في صدر امرأةٍ أحبها ..
وأتمنى أن لا أستيقظ..
للمرة الأولى أقيم حواراً طويلاً مع جسد امرأة أحبها ..
ولا أفكر في الحصول على إجازة ..
للمرة الأولى منذ عصور , أفكر بتجديد إقامتي معك ..
وحين يفكر رجل في تمديد إقامته مع امرأة ..
فهذا يعني أنه دخل مرحلة الشعر .. أو مرحلة الهيستريا ..
*
البحر شريطٌ من الحرير الأزرق على رأس تلميذة ..
ونهداك يقفزان من الماء .. كسمكتين متوحشتين ..
وأنا أنكش في الرمل الساخن بحثاً عن لؤلؤة تشبه استدارة نهديكِ ..
نخلتُ كلّ ذرات الرمل , وفتحت مئات الأصداف ,
ولم أعثر على لؤلؤة بملاستهما ..
انتهى رملُ البحر كله .. وانتهت قواقعي كلها ..
ورجعتُ إلى صدرك نادماً ومعتذراً .. كطالب راسبٍ في إمتحاناته ..
نتخبط في الماء .. كطائرين بحريين لا وطن لهما .
قطرات الماء تكرج على الجسدين المتشابكينْ ..
تتدحرج .. تشهق .. تغني .. ترقص .. تصرخ .. لا تعرف أيّ الجسدين تبلل ..
قطراتُ الماء دوختها جغرافيةُ الجسدين المتداخلين ..
لم تعد تعرف أين تسقط .. على أيّ أرض ٍ تتزحلق ..
ضاعت جنسية ُ الرخام . لم يعد للعنق اسم ..
ولا للذراع اسم .. ولا للخصر اسم ..
ضاعت أسماء الأسماء . الرخام كله معجون ببعضه ..
براري الثلج كلها تشتعل .. وأنا .. وأنتِ ,, مزروعان في زرقة الماء ..
كسيفين ِ من الذهب .
*
الحبّ يجرفنا كصدفتين صغيرتين ..
وأنا أتمسك بشعرك بشراسة إنسان يغرق ..
لم يكن بإمكاني أن أكون أكثر تحضراً ..
فحين تلتصقين بي كسمكة زرقاء ..
أكونُ سخيفاً وغبياً إذا لم أجرك معي إلى الهاوية ..
لتستقرّ في قعر البحر سفينتين لا يعرف أحدٌ مكانهما ..
*
إنتهى يومنا البحريّ ..
ذهبت أنتِ . وظلتْ رغوة ُ البحر تزحف على جسدي ..
ظلت الشمس جرحاً من الياقوت على جبيني .
حاولتُ أن أستعيدكِ , وأسنعيد البحر ..
نجحتُ في استرداد البحر ..
ولم أنجح في استردادك ..
فما يأخذه البحر لا يرده .
حاولتُ أن أركب يومنا البحريّ تركيباً ذهنياً ..
وألصق عشرات التفاصيل الصغيرة ببعضها .. كقطع الفسيفساء .
تذكرت كلّ شيء .
قبعتك البيضاء , ونظارة الشمس ,
وكتابك الفرنسي المطمور بالرمل ..
حتى النملة الخضراء , التي كانت تتسلق على ركبتك الشمعية ..لم أنسها ..
حتى قطرات العَرَق التي كانت تتزحلق كحبات اللؤلؤ .. على رقبتك لم أنسَها ..
حتى قدمكِ الحافية التي كانت تتقلب على الرمل , كعصفورة عطشى .. لم أنسها ..
*
إنتهى يومنا البحريّ ..
لا زال ثوب استحمامك البرتقالّ , مشتعلاً كشجرة الكرز في مخيلتي ..
لا زال الماء المتساقط من شعرك .. يبلل دفاتري ..
كل سطر أكتبه .. يغرق في الماء .
كل قصيدة أكتبها تغرق في الماء ..
كل جبل أصعد إليه .. يحاصره الماء ..
فاحملي بحركِ , يا سيدتي , وانصرفي
واتركي الشمس .. تُشرق ثانية ً , على جسدي
*
إنتهى يومنا البحريّ .
وكتبَ البحرُ في دفتر مذكراته :
" كانا رجلاً وامرأة ..
وكنت بحراً حقيقياً .. "